إرث لا يُورَّث

 

 

 

خالد بن حمد الرواحي

في كل مرةٍ يتغيّر فيها المسؤول، تبدأ الحكاية من الصفر. تُمحى اللوحات، وتُستبدل الشعارات، ويُعاد رسم التاريخ الإداري بمدادٍ جديد، كأنَّ ما سبق لم يكن. مشاريعٌ وُلدت بالأمس تُدفن اليوم بلا مُبرر، وخططٌ كادت أن تُثمر تُقتلع مع جذورها بمجرد أن يُغادر صاحبها المكتب. وهكذا يتحوّل الإرث المؤسسي – الذي كان ينبغي أن يُورَّث – إلى ذاكرةٍ منسية، وكأنَّ كل قادمٍ يهمس لمن سبقه: "ابدأ أنت، وسأنهي أنا".

إن ما يفترض أن يكون «إرثًا مؤسسيًا» يُبنى عليه، يتحوّل – للأسف – في بعض الجهات إلى صفحةٍ تُطوى مع أول توقيعٍ لمسؤولٍ جديد. فبدل أن يبدأ من حيث انتهى الآخرون، يبدأ من حيث بدأوا، كأن الزمن لا يتقدّم خطوةً واحدة. هذه الممارسات لا تعبّر عن رؤيةٍ تطويرية، بل تُجسّد انقطاعًا في سلسلة التعاقب المؤسسي التي تمثل جوهر الاستدامة الإدارية. فالمؤسسات الرصينة لا تُقاس بعدد المشاريع التي تُطلقها، بل بقدرتها على صون المعرفة المتراكمة وتحويل الجهود السابقة إلى قاعدةٍ تُبنى عليها الإنجازات اللاحقة، لا إلى عبءٍ يُتخلّص منه.

وحين يتولى بعض المسؤولين الجدد مواقعهم، يبدؤون – من حيث لا يُعلنون – معركةً صامتة ضد كل ما سبقهم. تُغيَّر الخطط، وتُستبعَد الكفاءات، وتُستبدَل فرق العمل بأخرى، وكأن المؤسسة وُلدت يوم تعيينهم. تتراجع الخبرات أمام الولاءات، وتُهدر سنواتٌ من البناء المؤسسي لأن صاحب القرار يرى أن ما أنجزه من سبقه لا يستحق البقاء. وفي لحظةٍ واحدة، يتحوّل شعار «ابدأ من حيث انتهى الآخرون» إلى ممارسةٍ معاكسةٍ تقول: «انسف ما أنجزه الآخرون وابدأ وحدك من جديد». وهكذا تُصاب ذاكرة المؤسسة بما يشبه الزهايمر الإداري، فتفقد قدرتها على التعلّم من تجاربها وتعيد أخطاءها في دائرةٍ لا تنتهي.

إن نسف ما بُني لا يعني فقط إلغاء مشاريع أو تبديل فرق عمل، بل هو إهدارٌ متكرر لجهدٍ ومالٍ ومعرفةٍ استثمرتها الدولة عبر سنواتٍ طويلة. فكل موظفٍ راكم خبرةً في موقعه هو جزءٌ من ذاكرة المؤسسة، وكل تجربةٍ سابقة تحمل درسًا يُجنّب تكرار الخطأ ذاته. وحين تُهمَّش هذه الذاكرة أو تُقصى الكفاءات بحججٍ واهية، تدفع المؤسسة ثمنًا باهظًا من كفاءتها واستقرارها. والأشدّ وطأةً أن يشعر المخلصون بأن أعمارهم الوظيفية تضيع في دوامة إعادة ما أُعيد، فيغيب الدافع، ويذبل الانتماء، ويتحوّل العمل العام إلى مسرحٍ لإثبات الذات بدل أن يكون ميدانًا لبناء الوطن.

وجوهر التعاقب المؤسسي لا يقوم على تكرار الوجوه، بل على استمرار الفكر والبناء. فالمسؤول الواعي يدرك أن موقعه حلقةٌ في سلسلة التطوير، لا نقطةُ انطلاقٍ جديدة. لذلك يترك بعده أثرًا يبقى، لا اسمًا يُنسى. فالمؤسسة القوية تُقاس بقدرتها على الحفاظ على ذاكرتها الحية وتوريث خبراتها لمن يأتي بعدها، لأن التطوير الحقيقي لا يبدأ من الصفر، بل من آخر خطوةٍ وصل إليها السابقون. وعندما يصبح تسليم وتسلم المهام عمليةً منهجيةً تُوثَّق فيها الخبرات وتُستثمر فيها المعرفة، يتحوّل الإرث الإداري من عبءٍ إلى كنزٍ وطنيٍّ متجدّد. فالقيمة ليست في من بدأ الطريق، بل في من أكمل المسير، وبنى على ما بُني قبله من غير أن يهدم ما أثبته الزمن من نجاح.

لقد آن الأوان أن نُغيّر نظرتنا إلى المنصب من كونه غايةً إلى كونه أمانة، وأن ندرك أن الاستمرارية لا تُقاس بتبدّل الأسماء، بل بما يُضاف إلى رصيد المؤسسة من معرفةٍ وتجربة. فحين يتوارث المسؤولون روح الإنجاز لا مواقعه، ويتعاملون مع جهود من سبقهم باحترامٍ لا بتجاهلٍ، يتحوّل الإرث المؤسسي إلى ثروةٍ تُنمّي الوطن، لا إلى حكايةٍ تُعاد كل بضع سنوات. فالإدارة التي تحترم ماضيها، تضمن حاضرها، وتصنع مستقبلها. وخلاصة القول: خير ختامٍ لكل عهدٍ رشيد أن يُقال فيه: ترك إرثًا يُورَّث، لا أثرًا يُمحى.

الأكثر قراءة